العقلية العلمية
حينما انشئت لجنة الطاقة الذرية الامريكية واجهت مشكلة تقليدية معروفة ألا وهي حرية التفكير العلمي _ إذ شملت القيود العسكرية جميع العلماء الذين يعلمون في الحقل الذرى سواء في اوك ريدج او جامعة شيكاغو او لوس الاموس . وقبل ان يعهد الي هؤلاء العلماء بابتكار وتطوير القنبلة الذرية كانوا يتمتعون بحريتهم العلمية في مناقشة اعمالهم لا سلطان لأحد عليهم او علي تصرفاتهم _لكن الجيش فرض او امره ومنع المناقشة الحرة من ان تجري حتي بين جدران المعامل المناط بها هذه البحوث النووية ، ووضعت القيود علي حركات علماء الفزياء والكيمياء وعلماء الحياة بحيث لا يستطيع اي منهم ان يتلقي او يفضي بأية معلومات او بيانات ذات اهمية فنية . وكان أن اصطدمت العقلية العلمية الحرة بالعقلية العسكرية الصارمة .
وفي هذا الصدد يقول الدكتور ليوزيلارد، وهو احد اقطاب الفزياء الذين علموا في القنبلة الذرية ، في شهادته امام لجنة الشئون العسكرية في اكتوبر عام1945 (( لقد كان علينا أن نختار ما بين طاعة الاوامر وبين تخريب او عرقلة العمل الذي نقوم به ، وكانت النتيجة أننا استعنا بادراكنا لمهمتنا محل الخضوع للأ وامر )) .ولم يكد يمر اسبوع واحد حتي انفلت احد علماء الفزياء واذاع بعض معلومات عن عملة لم يكن الافضاء بها مصرحاً به . وثارت بين رجال العلم قضيتهم الحيوية التي توارثوها خلال قرون عدة ـ إن العلماء يتحدثون دائماً عن اعمالهم في المؤتمرات والاجتماعات العليمة ويناقشونها داخل معاملهم مع زملائهم ، ثم هم ينشرون دائماً نتائج بحوثهم ويترقبون في شوق تعليق الاوساط العلمية عليها . ولم يستطيع علماءالفزياء والكيمياء النووية ان يحافظوا علي طاعتهم لأوامر الجيش وتكرر انهاكهم لها ، وحين وضعت الحرب اوزارها جمعوا حاجياًتهم وعادوا الي الجامعات .
ولا شك ان ترك العلماء للجيش كان سيحدث علي اي حال سواء كانت الظروف التي يعملون في ظلها طيبة ام غير طبية ، فالعلماء بطبعهم لايميلون للاعمال العسكرية. وهناك عدد من الظروف الاخري تكاتفت لتحقيق اسراع العلماء بهجرة المعامل التي خصصت من اجل الاستغلال العسكري للطاقة الذرية . وحين انشئت لجنة الطاقة الذرية الامريكية فكرت في إعادة تنظيم علماء الفزياء والكيمياء والمهندسين ، ورأت اللجنة عن فطنة انها يجب أن تفتح الطريق للعقلية العملية ،وهذا لايعني بالطبع ان لا توضع اية خطة تنظيمية للعمل ، ولكنه يعني ترك العقلية العلمية حرة فيما تفكر فية ـ علي الاقل فيما يتعلق بكبار العلماء الذين يصوغون النظريات العلمية الخلاقة .
ما هي هذه العقلية العلمية ؟ هل هي خيال رومانتيكي ؟ الواقع انه لا توجد هناك عقلية علمية بأكثر من عقلية الاسكافي او عقلية الفلاح او عقلية رجل القانون ، لكن توجد من ناحية اخري الطريقة العلمية القائمة علي التجربة والتحليل وتفسير الظواهر . وهذة الطريقة يتعلمها الاف من الطلبة كل عام ، كما ان استخدامها ليس وقفا علي المعامل وحدها ولكنها تطبق كذلك في الكثير من الاعمال . والطريقة العلمية لاتومن بشي علي انه آية منزلة ، ولا تقبل النظريات والمعتقدات الا بعد ان تخيرها بالتجربة او المشاهدة .
ويتوقف استخدام الطريقة العلمية ، علي وجهها الصحيح ، علي الاستعداد الفطري للمرء وعلي النظرة التي اكتسبها خلال ثقافتة وخبرتة . ومن اهم عناصر هذة النظرة الموضعية ومقاومة التحيز والامال والمخاوف وجميع العواصف بوجه عام . واهم ما يعتمد علية الباحث في عمله هو ما تنبئة بة اجهزته العلميه ـ مايكشف عنة الميكرسكوب او ما يسجلة الترمومتر . وحين نتحدث عن العقلية العلمية انما نعني هذا التزاوج بين الطريقة والاستعداد الفطري والنظره الموضعية . ولا غضاضة مطلقا في ان نشير الي العقلية العلمية طالما لم يغرب عن بالنا مضمون هذه العقلية . وليس ادل علي هذا المضمون من قول توماس هكسلي ((ليمنحني الله الشجاعة التي اوجه بها الحقيقة حتي لو كان في ذلك هلاكي ))ولم يحدث من قبل ان عبر عن التزامات العقلية العلمية بمثل هذا الايجاز والقوه .
وقد نتساءل : كيف تعمل هذه العقلية العلمية ؟ وافضل ما نجيب به علي هذا السؤال ان نعطي صوره سريعة عن الطرق التي تمت بها بعض الاكتشافات العلمية الهامة .وتاريخ العلوم مزدحم بالامثلة الكثيرة عن هذا الموضوع ـ سوف نكتفي باربعة منها لشرح ما نهدف الية.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق